روان النجار

تتواصل الاحتجاجات داخل صربيا، ففي يوم 23 مايو 2025، شارك آلاف المتظاهرين في احتجاج أمام مبنى الحكومة الصربية في وسط مدينة بلجراد، مطالبين السلطات بإلغاء الإجراءات التي اتخذتها ضد أساتذة الجامعات وعمداء الكليات المحتجين، وإلغاء خطط تغيير قوانين التعليم التي يقولون إنها ستؤدي إلى إلغاء استقلالية الجامعات الحكومية. فيما شهدت مدينة "كرالييفو" أيضاً حوادث مماثلة خلال جلسة محلية. ويُشير ذلك إلى استمرار هذه المواجهات بما يعكس تصاعد حالة الاحتقان الداخلي في صربيا، مع تضاؤل الثقة الشعبية بالمؤسسات الحكومية، لا سيما في ظل اتهامات بتسييس القضاء واستهداف النشطاء.سياق مضطربيُمكن القول إن ثمة دوافع ومطالب عديدة حركت الطلاب الصرب نحو تنظيم الاحتجاجات فضلاً عن جُملة من الاعتبارات سببت تصعيد تلك التظاهرات، يتمثل أبرزها فيما يلي:1- استمرار تداعيات كارثة محطة قطار "نوفي ساد": ترتبط موجة الاحتجاجات الراهنة في صربيا بحادث انهيار سقف محطة سكة حديد حديثة البناء في نوفي ساد في الأول من نوفمبر عام 2024، والذي أودى بحياة 16 شخصاً. ويرى المتظاهرون أن الفساد وفشل السلطات هما السببان الحقيقيان للكارثة التي تكمن وراء عيوب البناء. ويطالب الطلاب ومؤيدوهم ليس فقط باستقالة الحكومة أو استبدال السياسيين المتورطين في الحادث، بل أيضاً بالتطبيق الجذري لسيادة القانون لمواجهة "العصابات الإجرامية". كما يدعو الطلاب للشفافية الكاملة والمساءلة بشأن انهيار سقف المحطة والتي تم تجديدها وإعادة افتتاحها عام 2022، مطالبين المؤسسات المعنية بنشر الوثائق الكاملة المتعلقة بانهيار سقف المحطة في نوفي ساد على وقع عدم رضائهم عن الوثائق التي أصدرتها السلطات حتى الآن. والجدير بالذكر أن الادعاء العام قد وجَّه اتهامات إلى 16 شخصاً على الأقل، من بينهم وزير البناء السابق جوران فيسيتش.2- تنامي حالة عدم الرضا عن مؤسسات البلاد: انطلقت الاحتجاجات مدفوعة باستياء الطلاب إزاء أداء المؤسسات الحكومية والفساد وتآكل سيادة القانون وقمع الحريات، ودعا الطلاب إلى نظام مؤسسي قائم على مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، رافضين انعدام المساءلة السياسية، وغياب التعددية الإعلامية وحرية الصحافة، واعتياد الحكومة اتخاذ قرارات غير شعبية. 3- رفع شعارات الحفاظ على استقلالية الجامعات: أبدى المحتجون خلال الفترة الماضية مخاوفهم من تقويض استقلالية الجامعات، ففي مظاهرات يوم 23 مايو 2025، أمام مبنى الحكومة الصربية في وسط مدينة بلجراد، طالب المحتجون السلطات بإلغاء الإجراءات التي اتخذتها ضد أساتذة الجامعات وعمداء الكليات المحتجين، وإلغاء خطط تغيير قوانين التعليم التي يقولون إنها ستؤدي إلى إلغاء استقلالية الجامعات الحكومية. وتمر العلاقة بين الحكومة الصربية وطلاب وأساتذة الجامعات بتعقيدات هائلة في اللحظة الراهنة؛ حيث تتهم الحكومة الطلاب وأساتذة الجامعات بالعمل لصالح قوى غربية للإطاحة بالحكومة و"تدمير" صربيا. وفي هذا السياق، تشير تقارير إلى تخفيض الحكومة رواتب الأساتذة المحتجين، وهددت بوقف تمويل الكليات الحكومية التي عُلّقت الدراسة فيها لستة أشهر. كما أفادت التقارير بأن السلطات تعمل على قانون جديد، يقول الأساتذة إنه سيمهد الطريق للحكومة لتعيين عمداء الكليات، مما يلغي فعلياً استقلالية الجامعات. كما استجوبت الشرطة فلادان ديوكيتش، عميد جامعة بلغراد، واتُّهم بإساءة استغلال منصبه. 4- مخاوف مشتركة للطلاب والعمال بشأن ظروف العمل: التقت احتجاجات الطلاب ومطالب النقابات العمالية في صربيا حول مخاوف مشتركة. في عيد العمال، الموافق 1 مايو 2025، تظاهر الطلاب والعمال في بلجراد للمطالبة بتحسين ظروف العمل، بما في ذلك العاملون بعقود مؤقتة، والتي -وفقاً للمتظاهرين- لا يعترف بها قانون العمل في صربيا بشكل صحيح. وتُظهر بيانات مسح القوى العاملة الصربية أن 15.4% من إجمالي السكان في سن العمل يعملون بعقود عمل مؤقتة، ورغم أن هذا يُعزَى جزئياً إلى أن العديد من أفراد هذه الفئة لا يزالون في مرحلة التعليم، إلا أن 36% من الشباب يعملون بموجب عقود عمل مؤقتة، الأمر الذي يُثير استياء الكثيرين.5- الاعتراض على أساليب تعامل السلطة مع المتظاهرين: وجه المحتجون انتقادات واسعة لتعامل السلطة مع المتظاهرين ومطالبهم؛ حيث أشارت تقارير إلى تبني السلطة إجراءات أمنية مشددة للتعامل مع الاحتجاجات، والضغط على المحتجين. وفي هذا الصدد، أبلغ المتظاهرون عن التعرُض لجهاز صوتي محظور استخدامه في احتجاجات 15 مارس 2025 في بلجراد؛ حيث أشار العديد من المتظاهرين عن أعراض تتفق مع التعرض لجهاز صوتي بعيد المدى (LRAD) وهو سلاح عسكري للسيطرة على الحشود يُصدر ضوضاء عالية الديسيبل وهو غير قانوني بموجب القانون الصربي، وقد أدى الارتباك والضيق الناتج عن ذلك إلى تدافع هائل للمتظاهرين، ولكنه لم يسفر عن أي إصابات خطيرة. وبينما نفت الشرطة رسمياً استخدام مثل هذا الجهاز، فإن الحادث قيد التحقيق من قِبل العديد من منظمات حقوق الإنسان، حيث لا يزال من غير الواضح ما حدث. كما أن هناك تحقيقاً جارياً من جانب خبراء بجهاز الأمن الفيدرالي الروسي في الحادث عقب وصولهم بلجراد. 6- انضمام فئات مجتمعية مختلفة للاحتجاجات: تختلف حركة الاحتجاج الحالية في صربيا عن الموجات السابقة، حيث لم تُسهم الإجراءات التي اتخذتها السلطات حتى الآن إلا في تعزيز التظاهرات. فقد انضم طلاب الجامعات والمدارس الثانوية إلى الاحتجاجات لأول مرة منذ عقدين، وقاموا بذلك على نطاق واسع، من خلال احتلال المباني المدرسية على مستوى البلاد. ومن التطورات اللافتة دعم بعض أعضاء هيئة التدريس الجامعيين -الذين تجنبوا سابقاً مواجهة الحكومة- للاحتجاجات فضلاً عن المُمثلين وصُناع الأفلام وعمال الزراعة والمعلمين وطلاب المدارس الثانوية والمحامين والعاملين في المجال الثقافي. وتتخذ التظاهرات شكل عصيان مدني لا مركزي، ومن أبرز سماتها إغلاق الطُرق، وقد تجنبت الحركة عمداً تعيين قائد واضح للتأكيد على طبيعتها الشعبية. تداعيات قائمةنتجت عن الاحتجاجات الطلابية المستمرة جُملة من التداعيات داخل وخارج البلاد، يُمكن تناولها على النحو التالي:1- تراجُع أداء الاقتصاد الصربي على وقع الاحتجاجات: يتوقع أن يؤثر استمرار الاحتجاجات على الوضع الاقتصادي داخل صربيا؛ حيث ظهرت توقعات بانخفاض النمو الاقتصادي في صربيا لعام 2025 إلى 3%؛ حيث تراجع النشاط الاقتصادي في الربع الأول من عام 2025. وقد انخفضت الصادرات بنسبة 1.6% بالدولار الأمريكي. وفي هذا السياق، أشار الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيتش" خلال لقاء تلفزيوني، نهاية شهر مارس 2025، إلى أن الاحتجاجات أفضت إلى إبطاء معدل النمو، وذكر أنه "في الربع الأول، ووفقاً للتقديرات الأولية، سيبلغ النمو حوالي 3%، وكان من الممكن أن يصل إلى 3.6% و3.8%، لو لم نكن نعاني من هذا النوع من القسوة والإرهاب".2- تزايُد اهتمام الرئيس فوسيتش بالسيطرة على وسائل الإعلام: يُركز فوسيتش كل اهتمامه حالياً على تعزيز قاعدته الشعبية والاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من الناخبين للبقاء في الحُكم، كما يسعى للاستمرار في السيطرة على وسائل الإعلام. لكن من ناحية أخرى، تتصاعد الحركات المعارضة لحُكمه. وقد تهدأ الاحتجاجات الحالية دون أن تؤثر على توازن القوى السياسي، لكن هذا لن يحول دون تجدد الاحتجاجات وذلك في ضوء استمرار محفزات اندلاعها. 3- استمرار الضغوط على المسؤولين السياسيين داخل صربيا: يرجح أن تفضي موجة الاحتجاجات إلى مضاعفة الضغوط على المسؤولين السياسيين داخل صربيا، ولعل هذا ما اتضح، على سبيل المثال، من استقالة رئيس الوزراء "ميلوش فوتشيفيتش" في يناير 2025، حيث ذكر حينها أنه اتخذ هذا القرار لتهدئة التوترات وتلبية المطالب السياسية لأكثر المتظاهرين تطرفاً. وفي سياق متصل، دعا المحتجين للعودة إلى الحوار واتَّهم أيضاً مُنتقدي الحكومة باستغلال انهيار سقف محطة القطار لأغراض سياسية. وعلى الرغم من ذلك، اعتبر بعض المتظاهرين استقالة "فوتشيفيتش" محاولةً من الرئيس "فوسيتش" للبقاء في السلطة، فيما فسَّر الرأي العام تشكيل الحكومة الجديدة على أنه إشارة إلى تَشدد السلطات في موقفها تجاه المتظاهرين. 4- الترويج لحركة جديدة يقودها الحزب الحاكم: انتقد "فوسيتش" الاحتجاجات باعتبارها هجوماً من الخارج لأن بعض القوى الأجنبية لا تستطيع أن تتحمل رؤية صربيا حرة ومستقلة وذات سيادة، بحسب قوله، وأعلن تأسيس حركته السياسية الجديدة واستهدف خلال مظاهرة داعمة له يوم 12 إبريل 2025 الترويج لتلك الحركة الجديدة التي يقودها الحزب التقدمي الصربي الذي يتزعمه.وفي هذا الإطار، سعت الحكومة لتدشين احتجاجات مضادة في 2024/2025. وتُعد هذه المسيرات التي نظمها الحزب التقدمي الصربي الحاكم والحكومة جزءاً من استراتيجية أوسع للحفاظ على تقديم الحكومة نفسها على أنها القوة الشرعية والشعبية في السياسة الصربية مع محاولة تقويض حركات المعارضة ونزع الشرعية عنها.5- تصاعُد الضغوط الطلابية من أجل انتخابات مبكرة: يرجح أن تتصاعد الضغوط الطلابية من أجل إجراء انتخابات مبكرة، ففي 5 مايو 2025، تم تداول بيان على مواقع التواصل الاجتماعي جاء فيه "أن التصويت المبكر هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة السياسية العميقة في صربيا". وفي يوم 23 مايو الجاري، وقع أكثر من 1500 أكاديمي على عريضة تؤيد دعوات الطلاب لإجراء انتخابات مبكرة. واعتبرت العريضة أن الانتخابات قد تكون بمثابة حل للأزمة الاجتماعية والسياسية في البلاد. 6- دعم متزايد من الصين وروسيا لنظام فوسيتش: تحدثت بكين عن "التقدم الكبير" الذي أحرزته صربيا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية على مدى السنوات الماضية تحت قيادة الرئيس فوسيتش، وأكد السفير الصيني لدى صربيا "لي مينغ" أن بلاده ستواصل جهودها لدعم صربيا وسيادتها وسلامة أراضيها وتنميتها الاقتصادية في ظل الاحتجاجات والأحداث الحالية. فيما وصف المسؤولون الروس، مثل نظرائهم الصرب، احتجاجات الطلاب بأنها "ثورة ملونة" حيث اتهمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية "ماريا زاخاروفا" الدول الغربية بالتخطيط لزعزعة استقرار صربيا، باستخدام آليات "الثورات الملونة" والضغط على السلطات الشرعية في البلاد. 7- تضامُن رئيس الوزراء المجري "أوربان" مع النظام الصربي: تحتفظ حكومة بلجراد بدعم معظم الدول الغربية، التي تخشى من عدم الاستقرار في صربيا في حال انهيار إدارة الرئيس فوسيتش. وقد ظهر ذلك في دعم رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان" لنظيره الصربي وإلقاء كلمة أمام المتظاهرين عبر رسالة فيديو يوم 12 إبريل 2025 حيث قال: "إن الوطنيين الصرب يُمكنهم الاعتماد على الوطنيين المجريين".وختاماً، تُظهر الاحتجاجات أزمة الشرعية السياسية العميقة في صربيا، والتي لم يَعُد من الممكن تجاهلها. فهناك دعم واسع النطاق للطلاب والمتظاهرين، بالإضافة إلى ظهور بوادر لآراء معارضة داخل الائتلاف الحاكم نفسه. في ظل هذه الخلفية، يُواجه فوسيتش ضغوطاً متزايدة للتمهيد لانتخابات مبكرة. وبالرغم من ذلك، فإن قوى المعارضة لا تزال تعاني من إشكاليات هيكلية ربما أهمها أنها مجزأة، بالإضافة إلى الافتقار للقيادة والتنظيم الكافيين.

ما تداعيات استمرار الاحتجاجات الطلابية في صربيا؟